يؤكد الشاعر والناقد الإنجليزى تى. إس. إليوت أن “الفن يرتقي بالأحاسيس”. فالفنون على أشكالها المختلفة عملية حفر دائم داخل النفس البشرية المغلفة بالأحادية والتنميط والتقوقع وصولاً إلى النواة التي ينمو ويزدهر فيها ذلك الحس الإنساني المشترك، ذلك القبول غير المشروط لكل ما هو مختلف وشبيه من حولنا. وترتبط درجة الارتقاء بالمشاعر والأحاسيس سلباً وإيجاباً بدرجة تعرضنا لكم ونوع تلك الفنون وصولاً في النهاية، عند أسمى درجات ذلك التعرض، إلى حالة من الرهافة والصفاء تسموان فوق كل وقتي وزائل.
ومن هنا كان الفن الأصيل، مكتوباً آم مرئياً آم مسموعاً، يتجاوز المكان والزمان معاً سعياً نحو الخلود؛ وهو بذلك يتجاوز المحلي إلى الإنساني المشترك مهما غاص في محليته؛ ويتجاوز دوائر الدين واللون والعرق مهما دار في فلكهم. فالفن الأصيل يخاطب كل ما هو مشترك داخل النفس البشرية، محققاً الهدف الآسمى وهو التصالح رغم حتمية الاختلاف.
لذا، نلحظ أن زيادة الغلظة والانغلاق ترتبطان ارتباطاً شرطياً بندرة إنتاج واستهلاك الفنون. فالتقوقع داخل الهويات الدينية أو الأيديولوجية أو العرقية والمطالبة برفض ولفظ الآخر إرهاب فكري قد يتحول، إذا سنحت الظروف المواتية، إلى إرهاب مسلح، فتاك. فإذا كانت الفنون تَزحزحاً تدريجياً ناعماً للمشاعر والأحاسيس نحو قبول ذلك الآخر تحت مظلة الإنسانية المشتركة، فالإرهاب تقوقع داخل بوتقة شعورية منغلقة رافضة لهذا الآخر، راغبة في محوه.
ومن هنا تشكلت تلك العلاقة الطردية بين الإبداع والإرهاب. فالمبدع متقبِّل للآخر، متصالح مع ذاته؛ والإرهابي رافض لهذا الآخر، متخاصم مع ذاته. وبالتالي، كان المبدع ومازال من ألد خصوم الإرهابي وهدفه الأول. كم من كاتب استهدفه الإرهابي قتلاً وتشويهاً؟ كم من فنان عاش مرتعشاً مزعوراً من أذرعه الطولى؟ كم من دور للمسرح والسينما كانت هدفاً لرصاصه الغادر؟ كم من تهديد ووعيد بالقتل والحرق والتدمير طالت مبدعين ودور نشر ومهرجانات أدبية وفنية.
كما أن الفن بنزعته التصالحية، والتي تجمع البشر جميعاً تحت مظلته الوارفة، هو كل ما يتمناه الإرهاب ولا يحققه. ألا نرى كيف يحرص الإرهابي على تنفيذ عملياته بشكل مسرحي يضمن به سرعة وشمولية الانتشار؟ ألا نراه فى التسجيلات المرئية يقف فخوراً، مزهواً بذاته كبطل سينمائي قبل قطع رءوس الأبرياء أو قبل تفجير نفسه بين الآمنين؟ ألا نراه على الشاشات يتلو علينا بعض الرسائل الموجهة، مرتدياً قناع المثقف، قبيل أن يستقل طائرة مدنية ليفجر ركابها الأبرياء؟ يريد أن يحظى بمكانة المبدع، بقدرته على الانتشار والقبول بين الناس، ولكنه غافل آنه نقيض، بغيض. يستخدم وسائل الفن ليحقق الخلود ولكنه فانٍ سيغلفه النسيان. يريد أن يلتف من حوله الجمهور على اختلاف أجناسهم وأعراقهم كالمبدع الأصيل، ولكنه الوحيد المنعزل عن الجميع. يريد أن يتصالح مع نفسه والآخر متحدثاً باسم البشرية كالمٌلهم الوحيد، وهو المتخاصم مع نفسه والآخر، الملفوظ من الجميع.
حتماً الإرهاب والإبداع نقيضين، قوساً وقيثارة، منفصلين متلازمين، ترنيمة موت وأنشودة حياة. ودوماً سيحاول الثاني الصعود إلى مرتبة الأول، ولن يكون. فلنحتفِ بالفن والإبداع لأنه الترياق المضمون للإرهاب، وعندها سيضمر هذا الطفيلي ويزول بازدهار كل إبداع أصيل.