“الظنون الهائمة”
بقلم: أسامة مدنى
يحدثنى زملاء وأصدقاء فأجد فى كلامهم كثيراً من سوء الظن، قليلاً من حٌسنه. تفشت الآفة حتى صرت أجزع عندما يهرول ناحيتى أحدهم وهو يهمس: “أريد أن أحدثك فى أمر على انفراد”. فنادراً ما يخيب ظنى: همس ولمز، تقريع وتجريح فى زميل أو صديق أو قريب، فأجادل وأدحض، أفند وأبرهن مدافعاً عن حسن النوايا، محذراً من سوء الظنون. ولكن هيهات. فبدون بينات قاطعة أو أدلة ظاهرة حريى بِنَا أن نأخذ بالظاهر دون الباطن: بالابتسامة وليس ما وراءها، بالتحية وليس ما خلفها، بالحروف المنطوقة وليس بالنوايا المبطونة. يقول المولى سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات: 12). فجواز الظن السيئ هنا مرهون بظهور أماراته ورؤية دلائله، ودون ذلك فالندم آت لا محالة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات 6).
لماذا نسيء الظن غالباً ونحسنه نادراً؟ لماذا نتصيد الأخطاء ولا نلتمس الأعذار؟ لماذا نتحين هفوةً هنا وزلةً هناك، اندفاع بالقول لحظة غضب وتهور بالفعل لحظة انفعال؟ لماذا لا نلتمس الأعذار فنُقدر ونسامح غيرنا، ونحسن الظن فنتفهم ونتصالح مع أنفسنا؟ دون ذلك قد نقع فى الإثم الكبير. يقول الرسول الكريم: “إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث”، وهو ما يؤكده الخطابيّ حين يقول: “الظنّ منشأ أكثر الكذب”. ومنبع ذلك هو انعدام الثقة فى الخالق والنفس فتتهدم الجسور مع الآخرين. يقول الماوردي: “سوء الظنّ هو عدم الثّقة بمن هو لها أهل”، ويقول ابن كثير: “سوء الظنّ هو التّهمة والتخوّن للأهل والأقارب والنّاس في غير مَحلِّه”، ثم يختم المقريزيّ: “اعلم أنك إذا تأمّلت جميع طوائف الضّلال والبدع وجدتَ أصل ضلالهم راجعاً إلى شيئين: أحدهما:.. الظنّ بالله ظنّ السّوء”.
فهل نحذر سوء الظن فى الغير دون دليل قاطع؟ وهل نَحمل الآخرين علي أحسن المحامل ما لم نجد خلاف ذلك؟ ليتنا ننظر إلي الخير الوفير فينا وننحى جانباً الشر اليسير؟ ليتنا، فقد حان الوقت لمجاهدة النفس، ومغالبة الهوى.