هل الفَنُّ أصالةٌ كونية لازمنية كأبديَّة الروح لأن الفنّ حديثُ الروح وثوبها الجمالي؟ ونحنُ حائمون طوَّافون حول كعبة معانيه وقَبَسَات نوره ودرجات قُوس قُزحه الطيفيَّة؟ وهل الفلسفة رؤيةٌ كُليّة لحقائق غَيبية ما إن تتفتَّقُ أستارُها ونُداني صورَها فإذا بنا نقنصُ ستورَ السُّتور المُستَغلَقَة لندورَ في مسعى يُبتَدَأ ليُعاد مكرورًا بلا انتهاء؟ وهل العلمُ احتمالٌ زمني موقوت يرقبُ ويتأملُ ويُفسِّرُ شفرات الروح ولا يُوجدها لأنه لا طاقة له على الخَلق والبعث؟ إنما هو وسيط عقلي انتقالي لصورها من مسبح البرزخ إلى عالم المرئي المحسوس؟ فهل الفنُّ مركزٌ والعلمُ دوّارٌ في فَلَكِه متأمِّلًا مستنبطًا؟
كانت تلك الأسئلة الدوَّارة كمدارات الكواكب بالمجرّات والدم بالعروق والأفكار بالرؤوس كافية لتنطلقَ منها أطروحتي للماجستير لتُسائلَ النقدَ هُويَّته بين العقل والروح، بين المقاصد والمساعي. وبطبيعة الحال تخيَّرتْ الأطروحة لذاتها منهجية النقد الحواري المُراجِع لفلسفاته بالجدل والتطوير. فكان نقدُ النقد (فلسفة النقد/التنظير النقدي) هو مجالُ الدراسة الذي اصطفى بدوره نموذجًا له فرادة التجربة وسطوعها ووحشة التعتيم والإهمال في عصور الجمود والنقلية الآلية والذي تمثّل- أي النموذج المُنتَقَى- في الأُسوة النقدية الحُسنى لفيلسوف النقاد شكري محمد عياد في محاولة لاستخراج كلمة له لم تُقَل وتُمثِّلُ مضغتَه الروحية الأصل. فالدراسة تفترضُ كونَ ناقدنا ذا توجُّه يفتحُ آفاقَ النَّص على حياة النَّص ونصّ الحياة. كما يُفلسفُ مفاهيم التأصيل والحداثة والأكاديمية على نحو كوني حاضن للبينيَّات لا بعشوائية جَمع وحَصد أعمى، ولكن برَتق مُتَدَبِّر مُتَمَهِّل بصَير بمراحل التخلُّق الصَبور على ما لم يُحطه- بعد- علمًا، مستشرفًا لما استُغلقَ احتمالًا وفهمًا. فقد تساءل البحثُ مع ناقدنا؛ إذا كانت الفلسفة سؤالًا لا يرتوي بإجابة، والفنُّ روحًا لا تغيبُ وقد تلاقيا في حوار الخَلق وأنتجا ألوان النقد العديدة، فمن أين جفافُ النقد ومن أين شكلانيته وأبوَّاه دفَّاقان؟
وليكونَ العَرضُ حيًّا صادقًا ستُعَرِّجُ السطورُ على مُقتَطَفات من قلبِ الدِّراسة وكأنها قصةُ البحث، ليُخبَرَ عنها بها، فالوسطاءُ يمتنعون.
قصّة النقد:
المنظومة الإنسانية الداخلية تتألَّفُ من عقل وقلب ونفس وحواس. وللقلوب عقولٌ تفقه بها وللعقول مراكز عاطفة تشعرُ بها، والحواسُ بينهم تتراسلُ. والإنسانُ مُستَخْلَفٌ على هذه المَلَكَات مثلما هو خليفةُ الله في أرضه. فعليه أن يُحسنَ المؤاخاة بين هذه المُكوِّنات المعرفية وتزكيتها بالحوار الداخلي دون إسقاط حق أي منها في التصويت والمشورة لتستقيمَ منظومتُه الحضارية الداخلية وإلا لتمزَّقَتْ الذاتُ الإنسانية بين عقلٍ وقلبٍ ونفسٍ وعانت الانقسام. “إنَّ السَّمعَ والبَصَرَ والفؤادَ كلُّ أولئكَ كان عَنه مسئولًا” فإن لم يملك الإنسانُ التراحمَ وميزان العدالة بين مكوناته الداخلية، كيف يملكُها لغيره؟ فالتوازنُ الوجودي بالحوار مع النفس والغير هو فنُّ الإعمار نسقيًا وسياقيًا. وهذا هو جوهرُ التوازنُ الذي استوعبه ناقدُنا شكري عياد لإنسانية النقد وانتقلَ به عبر المعالجة والبلورة وانفتاح النص الفني على نص الوجود إلى ما اجتهدت الباحثة في تسميته فلسفة السعي النقدي القاصد رشدًا أو فلسفة المشورة النقدية أو النقد السقراطي المُحرِّر لحقائق الفن وقيمه المُطلقة. فقد فَقِه ناقدُنا أن الإنسانَ ناقدٌ بالفطرة يُسائلُ الوجودَ عن كُنهه ومسعاه ومقاصده وجدواه. لذلك فالناقدُ الأدبيّ ناقدٌ فطريٌّ وزيادة. فكيف يمكنُه أن ينقطعَ عن هُويّته الإنسانية وينغلقُ في أنساق شكلية، والنقدُ فطرة موصولة بالحياة قبل أن يكونَ علمًا مسطورًا؟ فالناقدُ مؤلِّفٌ بين العالم الكوني والعالم المجازي، لا باذلَ لسُبل الوقيعة بينهما.
والقصدية الجمالية لدى عياد درجاتٌ من العمق والمصداقية. وعلى كُلِّ إنسان الغوص في مراميها حسب قدرته وجَلَدِه. ولكن للبيان سجنًا افتراضيًا بين جماليات الاستتار وزيغ السفسطائيين، وهذا ما واجهه عياد بالتحرير السقراطي من منطلق كون المثقف الفنان الفيلسوف الناقد الإنسان رسولًا كونيًا للحق في موقعه الوجودي أيًا كان. وكأن أطروحة عياد الأسلوبية تقول: مَن كان يؤمنُ بالشكل فإنه فانٍ متَبَدِّلٌ يموتُ، ومَن كان يؤمنُ بالمطلقِ الذي يرتفدُه فإنه حيٌّ باقٍ أزليٌّ لا يموتُ. فقد أصّل عياد للنص النقدي السُلَّمي الارتقائي بالتدرُّج إلى سدرة القيمة العليا المنتهاة التي لا يستطيعُها إلا مَن شفَّعه الخالقُ الأعلى لبلوغها. ولأن الفنَّ جمالٌ فقد رامَ عياد البلاغة مدخلًا لعالم النقد. والمفارقة أنه دَخلَ للكونية الفسيحة من أضيق الصور الذهنية التي شكَّلتها عقولُ النقاد وهي البلاغة! وعملًا بمبدأ العدول الوجوبي سياقيًا، حررها تدريجيًا من هذه الرؤية الضيقة ليُصبحَ سعيُه البلاغي والنقدي والإنساني الكلي عدولًا بالكونية الإنسانية إلى صورتها الأرضية الموصولة بقيم السماء. ليُقاربَ رسالات الأنبياء والتي جاءت عدولًا عن القانون الوجودي لتجديده وإعادته لنصابه. ألم تنحرف النارُ عن إحراقها لطفًا بالخليل إبراهيم عليه السلام؟ ألم يُشقّ البحر لينجّي صفيّ الله موسى من أيدي قوم خسروا قلوبَهم؟ ومن هنا جاء النقدُ سعيًا انحرافيًا لاستعادة النية الروحية أو المقصود الجمالي وتحريره وتحقيقه بلا انتهاء.
وكون النقد شأن أية عملية لغوية هو عملية تشفيرية لأنها إحدى طرائق إسكان معنى في رمز، فجدلية أن تفكك التعبير الفني إلى أصله الصلصالي الروحي لتُعيدَ النفخَ فيه بتعبير تشفيري جديد، تُعدُّ من الأمور المركّبة التي تختلفُ من فن لآخر ومن ناقد مبدع لآخر. فاستنباط قانون كوني لفنية الفن من العمل الأدبي لا يكفي أبدًا لاتخاذه حكمًا أبديًا. فلابد وأن يتسم هذه القانون بمرونة اكتشاف جديد الفن. ولتسليم الراية لجديد القوانين المُنتَخَبَة من دولة الجمال بسماحةٍ تليقُ بحُرَّاس الفنون. وكأن عياد يرى أن القاعدة وإن أنارتْ الطريقَ وأبانتْ فقد قَصُرتْ وحُدَّت وإن اقتربتْ أكثر من سدرة المعنى لاحترقت، وإن اقتربَ رسولُ الإلهام الروحي لارتقى واخترق. وانطلاقًا من الآية القرآنية “والسماء ذات الحُبُك” حاولت الدراسة تبيُّنَ الخلق الحسن أو سماء النص النقدي واستنباط فلسفتها الاتساقية وسبل سموها للمعنى ووَصله بالقيم. فمتى يقتربُ الأدب من صراحة الكشف النقدي؟ ومتى يستترُ النقدُ بثوب المجاز الأدبي؟ فالصور الجمالية جدلٌ مع ثقافة الإدراك وفن صناعة الثقافة ذاته.
وقد كانت من أول الصور التي رصدتها الدراسة لعياد، صورة “وجعلتُ هدفي من هذا التحقيق محاولة إظهار النص في صورته يوم خرج من تحت يد صاحبه” وهي صورةٌ تتصلُ بفلسفة الخَلق وجَنينية الحضارة الإنسانية وأطوار تشكُّلها. فهي شبيهة برحلة المبدع التي يخلقُ فيها نصًّا ليُعيدَ محاكاة الخَلق الإلهي لصُورنا بوسعه البشري طبعًا. وشبيهة برحلة الناقد المعكوسة لإعادة رسم ما كان من المبدع وما عايشه قد وُسعه الفني. وشبيهة- بل هي ذاتها- برحلة نقد النقد التي تُمثّلُ إعادة الإعادة لأنها تُمسكُ بخيط المبدع الأديب من جهة والمبدع الناقد من جهة ثانية وخيطُها هي يمثلُ المُحاورَ لهما. ففلسفة شكري عياد تؤصل لإنسانية النقد التي تُحاكي الصورة القرآنية “وقد خَلَقكم أطوارًا” وكأن للكلمة رحلة النُطفَة الفونيمية الصوتية ثم المضغة الدلالية ثم العَلَقة الثقافية الراتقة لما سبقها من صور ثم تُبعَث في كل سياق فني بقوة الخلق الإبداعي التي تبثها روحًا آخر ودلالات لا تنتهي، والمتلقُّون طوَّافون حول أسرارها ليُعيدوا رحلة الخَلق المعنوي باحتمالات وصور لا تنتهي. فكلُنا محاكون لعملية الخَلق الأولى التي نفخَ الله فيها أرواحنا وإنما أصالتنا تتأتى بقدرتنا على الاقتراب الإلهامي من نفحات تلك الروح وتحرير طاقاتها على الخَلق فينا. فلأنها سرُّ أسرار الإله فينا فقد اختُصَّتْ وحدها بصفة الخَلق والإبداع المحاكية- قدر وُسعنا البشري- لمَا شهدته من خَلق الله لصورنا التي ركّبنا فيها. وهذه الصورة ابتدأ بها عياد خلقَه الفني في رحلة النقد والجامعة فمثّلت أطروحته للدكتوراه. وكأنه يُسائلُ النقدَ؛ هل أنا يا نقدُ منك؟ هل صحيحٌ ما رووه عن هُويَّتِنا معًا؟ ليبدأ رحلة العودة إلى الأصول وإعادة التأصيل. فالتأصيل لديه رؤية لازمنية تتلبَّسُ صورًا ترتقُ الماضوية بالمستقبلية وحاضرها الجدلي.
وناقدُنا لا يُفاضلُ بين الصور الجمالية بالبذخ التجميلي وإنما يجعلُ لكل صورة حياة جديدة ويعيدُ توزيعَ أنصبة المعاني الكونية على مستحقيها بلا تنابُذ أو تحاسُد حسب درجات سعيهم ومَلَكاتهم في مسارات الفن والحياة. أعاد عياد التأصيل للترجمة بفَتح منغَلَقِها الحاصر لها في ثنائية عنصرية من هدف وأصل ثبوتي لا يتزحزح في لعبة استحواذ سيادي للآخر الغربي. فحوَّلها عياد إلى جدلية تحتاجُها المجتمعات الإنسانية والكلُّ فيها منشئ ومتلقٍّ فاعل. لأن الترجمة فعلُ تحقُّق نقدي تحتمُه ضرورة أنطولوجية للبقاء والتحضُّر. والنص الأصل الثابت فيها هو الأصل الكوني المشترك بين البشر، والنصوص الإبداعية بمختلف الثقافات حوله طوَّافة دوَّارة محاكية مترجمة وتُمثّلُ هدفًا تبادليًا لقيم تصلُ صورَنا الترابية بأصلنا السماوي.
ولحماية حق التصويت الكوني في جمهورية النص الحضاري، أصّل عياد لمبدأ العدالة النصيّة فكان لأصغر فونيم حق تأثيري- متفاوت الدرجات- في نسيج العمل الفني. بل وللتشكيل أو حركات الضبط من كسرة وفتحة وضمّة قدرة تحريرية خالقة للمعاني ومُطوّرة لها ومُؤلفة لها على نحو مغاير؛ ألا يتحول معنى “بَر” من السعة إلى القمح بتبدُّل لُعبة الحركات الضبطية في “بُر”. وكأن عياد يُحرر القانون من قانونيته الراكدة الجَمود بغَمسه في نبع الفن ورَدِّه إلى حقيقته الحرة المتطورة المؤثّرة في رحلة المعنى. فكان ما أسمته الباحثة فلسفة الإحسان الفني هو المعادلُ لمفهوم الصورة البلاغية في مُخيّلة عياد. فالإحسان ارتقاءٌ عن أولى درجات الإيمان بعالمٍ ما إلى القدرة على استحضار عتباته الروحية والتشبُّه بها وُدًا وإتقانًا. فإن لم تكن ترى وتدرك المطلقَ الجمالي فإنه محيطٌ بك ويراك. وسُلَّمُ المحسنين درجات ولكلٍ نصيبٌ مما ارتقى نقديًا وجماليًا فيه. فالأسلوبية في فلسفة شكري عياد تحريرٌ لفطرة الجمال وحرية التعبير عنها في صور صادقة بلا حصر مهما شفّ سترُها كالسندس أو تخفّى كالاستبرق.
وتجدُرُ الإشارة إلى أن عياد طوّرَ- في إبداعه القصصي- فنّ القصة التعليمي ليخرج عن التلقين الإملائي الساذج. ليصبح تحريريًا للحقائق وتأصيليًا لصور الفن العصرية، بحيث يتساءل القارئ ما أنا بقارئ؟ وأين أنا من هذه الرحلة النص- كونية؟ وما مدى صلة أصالتها بمعاصرتها؟ وما دوري التأويلي والتأليفي الاستعادي لوجودي في قصة الحضارة؟ وقد تطلّبَ الظرفُ السياقي أن تغدو الوسطية في هذا المقام متمثلة في شحذ قصوى درجات الوعي الفني بحقيقته على الرغم من أن الفنّ غالبًا ما يُعلي جماليًا درجات اللاوعي الحدسي إلا أن عصر العلم الذي جعل الفنَّ يعاني من تحالف القوى العقلية العظمى ضده بالحذف والتشوية والإنابة الجَبرية، تطلَّبَ من الفن أن يؤصلَ للميتافن أو كيف يتحدثُ الفنُّ عن نفسه وكيف يضعُ خريطة معرفية لعصر الفن الاستعادي والتي يتآخى فيها الفنُّ بمركزيته الروحية مع الفلسفة والعلم. إذن فأسلوبية الفن متغيرة حسب القيمة العليا التي يجادلُها والتي جعلت الفن في هذا السياق العلمي الصارم يَهبُّ بثورة الخَلق متبادلًا الأدوار مع الفلسفة والنقد ليؤصِّلَ لهُويته ولهُوية الفلسفة المتخلّقة من لدنه وللنقد المتولد من رَحمه الروحي حتى يصدقاه الشهادة متى تصدّرا المشهد الحضاري.
وبالطبع لن يسعني المجال لحصر جلسات الدراسة مع روح ناقدنا شكري عياد ومحاوراتها معه وحصائلها منه، فلنا دومًا معه حوارٌ لا ينقطع ولقاءٌ لا ينتهي. وإن تحرر ناقدنا من هذا المنظور الاجتهادي حوله شأن كل مبدع يتأبى على التأطُّر، فأرجو أن تكون رؤياي قد التقت معه في إحدى دوائره الإبداعية ومساعيه الوجودية الفنية على نقرات موسيقى الأشواك التي قفز عليها محرِّرًا للمعاني من صدور وائديها، قبل أن يجاوزها في عليائه القصيّ إلى دائرة الكمال لتمنحَه الحقيقة ما استعصى منها سرمدًا بعد أن سعى لها وسعتْ له بلا سؤال أو تأويل أو مرية..